فصل: تنبيه (على الاستثناء في الآية):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأورد الجبائي عليه أن المريض إذا قال للطبيب أريد أن تدخل علي في حالة مرضي لم يلزم منه كونه مريدًا لمرض نفسه، والجواب أن أمثال هذه موكولة إلى قرائن الحال ففي قول المريض لا ريب أن المطلوب هو دخول الطبيب، وكون الدخول واقعًا في تلك الحالة من ضرورات كونه مريضًا وهو طبيبه. وفي الآية ليس المراد زهوق الروح فقط لأن المسلم والمنافق في ذلك سيان، فالمراد وقوع الزهوق في حالة الكفر فيكون الكفر منهم مرادًا بالضرورة. وقال في الكشاف: المراد الاستدراج بالنعم كقوله: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا} [آل عمران: 178] كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة. ومن قبائح أفعال المنافقين ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله: {ويحلفون بالله أنهم لمنكم} أي على دينكم. ثم قال: {وما هم منكم} أي ليسوا على دينكم.
{ولكنهم قوم يفرقون} يخافون القتل فيظهرون الإيمان تقية.
ثم أكد نفاقهم بقوله: {لو يجدون ملجأً} مفرًا فيتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم. فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن من صميم القلب. والمغارات مغارة وهو الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر. والمدخل بالتشديد مفتعل من الدخول أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما. والتداخل تفعل من الإدخال ومعناه المسلك الذي يتحفظ بالدخول فيه.
قال الكلبي وابن زيد: نفق كنفق اليربوع. والمراد أنهم لو وجدوا مكانًا على أحد هذه الوجوه مع أنها شر الأمكنة {لولوا إليه} يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف وولي غيره إذا صرفه {وهم يجمحون} أي يسرعون إسراعًا لا يرد وجوهم شيء. ومنه الفرس الجموح لا يرده اللجام. والحاصل أنهم من شدة تأذيهم وتنفرهم من الرسول والمسلمين صاروا بهذه الحالة.
قال بعض العلماء: إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء والأقرب حملها على المعاني المتغايرة، فالملجأ الحصون، والمغارات الكهوف في الجبال، والمدخل السرب تحت الأرض كالآبار والله تعالى أعلم. ومن جملة قبائحهم قوله: {ومنهم من يلمزك} الآية.
قال الزجاج: لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته. وفرق الليث فقال: اللمز العيب في الحضور، والهمز الغيب في الغيبة، واعلم أن العيب في الصدقات يحتمل وجوهًا: الأول: في أخذها بأن يقال انتزاع كسب الإنسان من يده غير معقول لأن الله هو المتكفل بمصالح عبيده إن شاء أفقرهم وإن شاء أغناهم. الثاني: أن يقال: هي أنك تأخذ الزكوات إلا أن ما تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك. الثالث: هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه فيكون العيب قد وقع في قسمة الصدقات وفي تفريقها وهذا هو الذي دلت الأخبار على أنهم أرادوه.
عن أبي سعيد الخدري بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين قال له ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج: أعدل يا رسول الله. فقال: «ويلك ومن يعدل إذ لم أعدل» فنزلت. وعن الكلبي هو أبو الجواظ قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أبا لك أما كان موسى راعيًا. أما كان داود راعيًا» فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» وقيل: هم المؤلفة قلوبهم. ثم بيّن أن عيبهم ذلك وسخطهم لأجل نصيب نفسهم لا للدين فقال: {فإن أعطوا منها رضوا} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون. ومعنى {إذا هم يسخطون} فهم يسخطون. وفائدته أن يعلم أن الشرط مفاجئ للجزاء ومتهجم عليه. ثم أرشدهم إلى ما صلاحهم في نفس الأمر فقال: {ولو أنهم رضوا} الآية ورتبه على أربع مراتب: الأولى: الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمهم بأنه تعالى حكيم يعلم عواقب الأمور، فكل ما كان حكمًا له وقضاء منه كان حقًا وصوابًا ولا إعتراض عليه. الثانية: أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم: {حسبنا الله} كفانًا فضله وصنعه، لغيرنا المال ولنا الرضا والتسليم وذكر الحبيب. الثالثة: أن نزل من هذه المرتبة العالية كان واثقًا بأن الله لا يهمله وسيعوضه من فضله في غنيمة أخرى. الرابعة الرغبة إلى الله بأنه المقصد الحقيقي والمقصود الأصلي من الإيمان والطاعة والمال والمنال. يروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم يذكرون الله فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا: الخوف من عقاب الله. فقال: أصبتم. ومر على قوم آخرين يذكرون الله فقال: ما الذي حملكم عليه؟ فقال: الرغبة في الثواب. فقال: أصبتم. ومر على قوم ثالث مشتغلين بالذكر فسأهلم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بذكره. فقال: أنتم المحقون. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{ولو أرادوا الخروج} إلى الغزو معك {لأعدّوا له} أي: قبل حلوله {عدّة} أي: قوّة وأهبة من المتاع والسلاح والكراع بحيث يكونون كالحاضرين في صلب الحرب الواقفين في الصف قد استعدوا لها بجميع عدتها، ولما كان قوله تعالى: {ولو أرادوا الخروج} يعطي معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو أتى تعالى بحرف الاستدراك فقال تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم} أي: لم يرض خروجهم معك إلى الغزو {فثبطهم} أي: حبسهم بالجبن والكسل {وقيل} لهم {اقعدوا مع القاعدين} أي: مع النساء والصبيان والمرضى وأهل الأعذار ومعنى {قيل لهم} أي: قدر الله تعالى عليهم ذلك بأن ألقى في قلوبهم القعود لما كره الله انبعاثهم مع المؤمنين، وقيل القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذنوه في القعود فقال لهم: اقعدوا مع القاعدين.
فإن قيل: خروج المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة فإن كان فيه مصلحة فلِمَ قال تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} وإن فيه مفسدة فلم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} في ترك الخروج؟
أجيب: بأن خروجهم فيه مفسدة عظيمة بدليل قوله تعالى: {لو خرجوا فيكم} أي: معكم {ما زادوكم} بخروجهم {إلا خبالًا} أي: فسادًا وشرًا بتخذيل المؤمنين وتقدم الكلام على قوله: {لم أذنت لهم}.

.تنبيه [على الاستثناء في الآية]:

لا يصح أن يكون فيه الاستثناء منقطعًا لأنّ الاستثناء المنقطع يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقوله: {ما زادوكم خيرًا إلا خبالًا} والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور وإذا لم يذكر ووقع الاستثناء من أعم العام كأنه قيل: ما زادوكم شيئًا إلا خبالًا {ولأوضعوا} أي: أسرعوا {خلالكم} أي: بينكم فيما يخل بكم بالمشي بالنميمة {يبغونكم الفتنة} أي: يطلبون منكم ما تفتتنون به وذلك أنهم يقولون للمؤمنين: لقد جمعوا لكم كذا وكذا ولا طاقة لكم بهم وإنكم ستهزمون منهم وسيظهرون عليكم، ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تجبنهم {وفيكم} أي: والحال أن فيكم {سماعون لهم} أي: عيون لهم يؤدون لهم أخباركم وما يسمعون منكم وهم الجواسيس أو مطيعون لهم يسمعون كلام المنافقين ويطيعونهم وذلك أنهم يلقون إليهم أنواعًا من الشبهات الموجبة لضعف القلب فيقبلونها منهم.
فإن قيل: كيف يكون في المؤمنين الخالصين من يطيع المنافقين؟
أجيب: بأنهم ربما قالوا قولًا أثر في قلوب ضعفة المؤمنين في بعض الأحوال وقوله تعالى: {والله عليم بالظالمين} وعيد وتهديد للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين.
{لقد ابتغوا الفتنة} أي: العنت ونصب الغوائل والسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك كما فعل عبد الله بن أبيّ يوم أحد وحنين انصرف بمن معه وعن ابن جريج وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلًا ليفتكوا به.
{من قبل} أي: قبل غزوة تبوك {وقلبوا لك الأمور} أي: ودبروا لك الحيل والمكايد ودوروا الآراء في إبطال أمرك {حتى جاء الحق} وهو تأييدك ونصرك {وظهر أمر الله} أي: غلب دينه وعلا شرعه {وهم كارهون} له أي: على رغم منهم فدخلوا فيه ظاهرًا، ولما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس وكان من المنافقين: «يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر يعني: الروم نتخذ منهم سراري ووصفاء» فقال الجدّ بن قيس: يا رسول الله لقد علم قومي أني مغرم بالنساء وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ائذن لي بالقعود ولا تفتني وأعينك بمالي، قال ابن عباس: اعتل الجد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى فيه: {ومنهم} أي: المنافقين {من يقول أئذن لي} أي: في القعود في المدينة {ولا تفتني} أي: ببنات بني الأصفر وقيل: لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم وقيل: لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها وقيل: لا تفتني بسبب ضياع المال والعيال؛ إذ لا كافل لهم بعدي قال الله تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} أي: إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف وظهور النفاق لا ما أخبروا عنه {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي: جامعة لهم لا محيص لهم عنها يوم القيامة أو هي محيطة بهم الآن لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها.
{إن تصبك} يا محمد في بعض الغزوات {حسنة} أي: نصرة وغنيمة {تسؤهم} أي: تحزنهم لما في قلوبهم من الضعف والمرض {وإن تصبك مصيبة} أي: نكبة وإن صغرت في بعض الغزوات كما وقع يوم أحد {يقولوا} أي: سرورًا وتبجحًا بحسن رأيهم {قد أخذنا أمرنا} أي: بالجد والحزم في القعود عن الغزو {من قبل} أي: قبل هذه المصيبة {ويتولوا وهم فرحون} أي: مسرورون بما نالك من المصيبة وسلامتهم منها قال الله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء الذين يفرحون بما يصيبك من المصائب والمكروه {لن يصيبنا إلا ما كتب الله} أي: قدره {لنا} في اللوح المحفوظ لأنّ القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة من خير وشر فلا يقدر أحد أن يدفع عن نفسه مكروهًا نزل به أو يجلب لنفسه نفعًا إن أراده ما لم يقدر له {هو} أي: الله: {مولانا} أي: ناصرنا وحافظنا وهو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} في جميع أمورهم لأنّ حقهم أن لا يتوكلوا على غيره ليفعلوا ما هو حقهم.
{قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {هل تربصون} فيه حذف إحدى التاءين من الأصل أي: تنتظرون أن يقع {بنا} أيها المنافقون {إلا إحدى الحسنيين} تثنية حسنى تأنيث أحسن أي: إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب وهما النصر أو الشهادة، وذلك أنّ المسلم إذا ذهب إلى الجهاد في سبيل الله إما أن يسلم ويغنم فيحصل له المال وإما أن يقتل في سبيل الله فتحصل له الشهادة وهي العاقبة القصوى وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» {ونحن نتربص بكم} أي: إحدى السوأيين من العواقب إما {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده} لا سبب لنا فيه كأن ينزل عليكم قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود {أو} بعذاب {بأيدينا} أي: بسببنا من قتل ونهب وأسر وغير ذلك {فتربصوا} بنا ما ذكرنا من عواقبنا {إنا معكم متربصون} ما هو عاقبتكم ولابد أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه.
{قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أنفقوا طوعًا أو كرهًا} أي: من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين.
وسمي الإلزام إكراهًا لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقًا عليهم كالإكراه أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأنّ رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم {لن يتقبل منكم} أي: لا تقبل منكم نفقاتكم على أيّ حال كان.
فإن قيل: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: {لن يتقبل منكم}؟
أجيب: بأن هذا أمر في معنى الخبر كقوله تعالى: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدًا}
وروي أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مالي أعينك به فاتركني.
ثم علل تعالى سبب منع القبول بقوله تعالى: {إنكم} أي: لأنكم {كنتم قومًا فاسقين} والمراد بالفسق هنا الكفر ويدل عليه قوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} أي: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم، وقرأ حمزة والكسائي: يقبل، بالياء على التذكير لأنّ تأنيث النفقات غير حقيقي، والباقون بالتاء على التأنيث {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} أي: متثاقلون لا يأتونها قط بنشاط {ولا ينفقون} أيّ: نفقة من واجب أو غيره {إلا وهم كارهون} أي: في حال الكراهة وإن ظهر خلاف ذلك وذلك كله لعدم النية الصالحة وهذا لا ينافي طوعًا لأنّ ذلك بحسب الظاهر وهذا بحسب الواقع.